ردوها كما كانت
عرّف أهل العلم التراث بقولهم: التراث هو شكل ثقافي متميز يعكس الخصائص البشرية عميقة الجذور، ويتناقل من جيل إلى آخر، ويصمد عبر فترة زمنية متفاوتة نوعياً، ومتميزة بينياً، تظهر عليه التغيرات الثقافية الداخلية والعادية، ولكنه يحتفظ دائماً بوحدة أساسية مستمرة.
كلنا يعلم أن التمرد على كل ما هو قديم لا يدل على التمدين، ولا التنكر لكل ما هو عتيق يدل على التحضر ، فليس كل قديم يرمز إلى التخلف ، ولا التمسك بكل ما هو عتيق يرمز إلى الجهل، بل انه كلما زادت درجة الوعي لدى أي شعب في المحافظة على آثاره وتراثه وتمسك بموروثه وثقافته كانت له عاملا مساعدا على فهمه لذاته وزادا معرفيا يتوارثه الأجيال جيلاً بعد آخر .
وإدراكنا لقيمة موروثنا وتكريس جهودنا للمحافظة عليه مقياس حقيقي لرقينا و تقدمنا، إذ أنه لا تناقض بين التطور وبين المحافظة على الموروث والاهتمام به، فالقديم لم ينشأ بين عشية وضحاها وإنما نشأ بجهود أجيال واشترك في صناعته الكثيرون، كما أن البناء المعماري القديم ليس حجارة صماء، ولكنه تراث يصور تراكم تاريخنا المدني والاجتماعي والمكاني، وحياة أجيال عاشوا فيه خلال فترات تاريخية طويلة امتدت بامتداد تاريخ مدينتنا الحافل بالانتصارات والبطولات.
ولا ننسى أن الأحياء والمساجد والأسواق والأزقة القديمة قد وقفت في وجه أعدائها وتعرضت لقصف الطائرات والمدافع فآوت أبناءها ولم يصبها الوهن وظلت واقفة صامدة ثابتة على أرضها غارسة جذورها فيها، إلى أن أتينا نحن وبكل أسف بجرافاتنا فهدّينا أركانها وفكّكّنا نسيجها وقطّعنا أوصالها بحجة أقامة مدينة متحضرة ؟؟؟ غير مدركين أن الحضارة هي ماض يمثل الهوية، وحاضر نعيشه ونصنع أحداثه، ومستقبل نتطلع إلى أن يكون واعداً مشرقاً، والمؤسف أكثر أن من قاموا بهذا الخطأ لم يكلفوا أنفسهم جهد توثيق هذه المعالم على أشرطة مرئية أو صور ثابتة قبل أن يفعلوا فعلتهم هذه، ولولا أن سخر الله بعض الرحالة والسواح وهواة التصوير ليلتقطوا العديد من الصور لمختلف المدن في ليبيا لما بقي من هذه المدينة أثر يذكرنا بها، وفي هذا الإطار وبعون من الله وتوفيقه وتعاون بعض عشاق التراث، تمكنت من جمع عدد كبير من الصور للمدن الليبية منها حوالي 213 صورة لمدينة مصراتة القديمة يعود تاريخ بعضها إلى أكثر من 100 سنة، بالإضافة إلى عدد من الصور التي تصور ما ارتكبته قوات الاحتلال من جرائم وانتهاكات لحقوق الإنسان ضد الآباء والأجداد في بلدنا الحبيب ليبيا, سينشر عدد كبير منها إنشاء الله في الجزء الثاني من كتاب مصراتة تراث وحضارة في القريب العاجل أنشاء الله، وبهذه المناسبة ومن هذا المنبر الإعلامي أتوجه إلى جميع رجال الأعمال من أصحاب المصانع والشركات وأناشدهم تولى رعاية معرض لهذه الصور القديمة حتى يراها من لم ير بلده وكيف كانت .
وعودا على بدء ولنعبر عن هويتنا والأثر الخاص بمنطقتنا ونمط معيشتنا وأسلوب حياتنا، صار لزاما علينا أن نهتم بتراثنا وما يزخر به من بعد تاريخي مميز ونصلح ما أعطبنا ونسعى جادين في أن نرد لمدينتنا القديمة نسيجها العمرانيً كما كان، فنبني ما تم هدمه مهما كان حجم التكاليف، خصوصاً وأن مواقع معظم المباني القديمة التي هدمت لم يستغل إلا كساحات أو مساحات خضراء، لم نجني من ورائها إلا المتاعب، ونحافظ على ما تبقى من مبان قديمة ونهتم بصيانتها ونضع حداً لكل من يحاول العبث بها ،ونعيد تأهيلها بشرط المحافظة على معالمها وعدم تغييرها ، فإن أي تعديل في المدينة القديمة قد يلغيها ويجعلها تابعة للمناطق الجديدة، وهذا يعتبر إتباع الأصل للفرع، صحيح يجب إلحاق الحاضر بالماضي ولكن بشرط المحافظة على خصوصية كل منهما، فالانفصال عن الماضي خطأ يجب ألا يتكرر لنعيش الحاضر ونتطلع إلى المستقبل ونذكر الماضي ولا ننساه بخيره وشره فمن ليس له ماضي ليس له مستقبل.
وإن أهم ما دعاني إلى كتابة هذا المقال أمران الأول: التنبيه إلى أن إهمال المباني وعدم صيانتها قد يعرضها للدمار والثاني: نداء إلى كل غيور للمساهمة في نشر الوعي بقيمة التراث والتحريض على المحافظة عليه، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من جرافات الحداثة ومخالب التمدين، حتى لا ينطبق علينا قول القائل: يترك الأمر وهو في المستطاع ! ويجد في طلبه إذا ضاع !!!.
والتراث ليس فقط المباني والأزقة والشوارع، بل يشمل كل ما خلفته لنا الأجيال السابقة، وما سنتركه نحن للأجيال اللاحقة في مختلف الميادين، كالموسيقى والمسرح والفنون الشعبية، والغناء والشعر الشعبي والروايات الشفوية، والصناعات التقليدية بجميع أنواعها، والقطع الأثرية والوثائق والمخطوطات والنقوش (واللهجة واللباس وهما من اهم عناصر تحديد الهوية) والمأكولات بجميع اصنافها وانواعها، فتنوع التراث يعكس المستوى الحضاري للشعوب.
وما أود أن أنبه إليه هو خبر تبادر إلى سمعي أرجو أن يكون مكذوباً، ذلك أن أحد المواطنين يسعى إلى الحصول على موافقة الجهات المسئولة لتخصيص مبنى المدرسة الإبتذائية المركزية وهي أقدم مدرسة ابتذائية بمصراتة ليحولها إلى مقهى أو ملهى إن صح التعبير، مستغلاً وضع هذا المعلم التاريخي وما يعانيه من تسيب وإهمال لإقناع هذه الجهات بأنه سيتولى القيام بعمليات الصيانة والترميم التي توقفت مند سنوات، وكأن هذه الصيانة تحتاج إلى ما لا تطيقه الخزانة العامة، في الوقت الذي تُصين فيه مباني لم يتجاوز عمرها 30 سنة بمبالغ لا يستطيع عاقل أن يستوعبها، فأصلحوا أصلحكم الله وردوها كما كانت.
واعتقد أنه لا يجوز الموافقة على طلب كهذا فلا يليق لمثل هذه المنارة العلمية أن تتحول إلى مقهى، كما أنه لا يتفق وطرق المحافظة على المعالم الاثرية التي حددها المختصون ومنها طريقة ( التكييف REHABILITATION ) وهي عملية تعديل ليوائم غرض استخدامه المغاير لاستخدامه الأصلي، وشرط التكييف أن لا ينتقص بدرجة كبيرة من الأهمية الحضارية للموقع وأن يكون التكييف ضرورياً لإبقاء الموقع في حالة تمكنه من الاستمرار.
وفي الختام كأني بمدينتي تنادي وتقول:إلى الله أشكو بثي وحزني وهو المستعان ... وإنه لنداء لمن يهوى التراث ويقدره حق قدره... فهل أنتم سامعون ورادّوها ؟... أم قد عدتكم عن السماع عوادي الأيام؟
عبدالكريم محمد أبوعليم